الثُعْلُبَانُ والذئب

   كان ثُعلبانٌ يعيش مع زوجه الثعالة في أحد الكهوف، وكان لهما جِراءٌ؛ وكان الثّعلب الذَّكَرُ يخرج كلّ يوم إلى الأحراج ويأتي بالطّرائد، تأكلها الأنثى وصغارها.

   حدث مرّةً أن قلّ الصّيد وانقضت أيّامٌ لم يستطع وأسرته أن يأكلا حتّى الشّبع، فغادر أبو الحصين مَكْمَنَه مصمّمًا رحلةً بعيدةً لعلّه يلاقي ما يُشبعه وعيلته، فطاف الحقول والمروج والبراري والغيظان، ساعيًا وراء الرّزق، فلم يصادف حيوانًا ولا طيرًا يُسْمِنُ أو يُغني من جوعٍ؛ وكان يتقوَّت، من حينٍ إلى حينٍ، بديدان الأرض وخراطينها وحلزونها وبزّاقها، فيسُدُّ رَمَقه ويتعلّل به. وكان في أثناء تجواله شديد الحذر والخوف من الذّئاب، لهذا كان يتجنّب المذائب، اتّقاءً لشرّ الحيوانات الدمويّة.

   وبعد سفرٍ طويلٍ مُضنٍ، هزَل جسمه وتعب، فانتقى مكانًا في طرف حرشٍ استراح فيه قليلًا لتجديد قواه الخائرة، محاولًا النّوم، ولكنّه لم يقدر، إذ لم يكد يتمدّد على الأرض حتّى هبّ وتمطّى وتثاءب وتنهّد تنهّدة الألم من الجوع الّذي جعل بطنه أجوف، وتوغّل في الغابة يبحث عن فريسةٍ؛ غير أنّ عَدْوَهُ وبحثه ذهبا سدىً، فلم يلاقِ شيئًا. وما فرغ من الجولان في الحرش حتّى وصل إلى حقلٍ، مزروعٍ بالشّعير المُسْتحصد، قريبٍ من ديرٍ، فاستأنس به.

   وكان الدّير كبيرًا، سكّانه من الرّهابنة البِيض، يُحيط به سياجٌ شائكٌ متلاصق العمد.

   وكان بقرب الدّير هُرْيٌ فخمٌ حسَن البناء، سميك الحيطان، حجارته كبيرةٌ ذات لونٍ رماديٍّ حوله خندقٌ عميقٌ. وهذا الهُري مملوءٌ بجميع أنواع المآكل التي يحسن الرّهبان اختيارها، عادةً، لسلامة ذوقهم ومعرفتهم بشهيّ الأطعمة التي لا تكرهها الثّعالب. راقب أبو الحصين بيت المؤونة وسمع الدّجاج يُقَوْقي والدّيوك تصيح: كيككي كي والبطّ يبحّ ويقوق، ولكنّ البوّابة كانت مقفلةً إقفالًا محكمًا بالمتاريس، فطاف حول الخندق العميق آملًا أن يجد مدخلًا، فلم يُلاقِ وكاد أن ييأس.

   أخيرًا دنا من الباب الكبير وأخذ يتحكّك به ويمسُّه بأنفه؛ فما كان منه إلّا أن لامَسَ طاقه القطط المصنوعة في أسفله، وكانت غير محكمة القَفْل، فانفتحت قليلًا، فدفعها بإحدى، قوائمه فانفتحت كلّها وبادر إلى الدّخول من خلالها. وبعد بضع ثوانٍ أصبح في داخل الدّير الغنيّ.

   وَجَدَ الدّار فسيحةً، فخاف كثيرًا لأنّ الرّهبان أذكياء دهاةٌ، فإذا باغتوه أقفلوا طاقة الهررة خلفه وعرّضوه للهلاك أو بالأحرى سلخوه حيًّا.

   وكان شديد السّغب فلم يبال بأحدٍ، في أوّل الأمر، عندما شمّ رائحة الدّجاج وسمع قوقأتَها، وخفّ، للحال، متّجهًا نحو مزربها، دون أن يُبصر فيها دجاجةً واحدةً. وما كاد يصل إلى وسط الدّار حتّى هبّ النّسيم فصَرَدَتْ دوّارة الرّيح على سطح الدّير، فأجْفَل الثُّعلبان من الرّعب وقفزثلاث قفزاتٍ سريعةٍ أوصلته أمام الطّاقة الّتي ولج منها وأدخل رأسه وزمّ جسمه وخرج وولّى هاربًا؛ سوى أنّه ما جاوز مسيرةً قصيرةً حتّى تغلّب فيه حُبُّ أكل الدّجاج على الخوف، وكان قد عضّه الجوع بأنيابٍ حادّةٍ، فعاد أدراجه ودخل، ثانيةً واقترب متمهّلًا من القنّ، فرأى، على خشبةٍ، ثلاث دجاجاتٍ سمينات نائمات، فدنا منها بكلّ رفقٍ وهدوء فلم يبدُ منها أيّ حركة، ولكنّه ليتمكّن من تناولها، كان عليه أن يتسلّق كديسًا من القشّ. فلمّا فعل سَمِعَ لِوَقع قوائمه خشخشةً، فاستفاقت الدّجاجات مضطربةً وفتحت عيونها قليلًا وقوقأت، فوثب عليها الثّعلبان كالبرق الخاطف، وخنقها قبل أن تتحرّك من أماكنها.

   ومن شدّة سَغَبِهِ وشرهه ازدرد منها اثنتين وخلّى الثّالثة ليحملها إلى زوجه ثعاله وجرائه. ولمّا انتهى من الأكل انتفخ بطنه، فتضايق كثيرًا عندما خرج ثانيةً، إذ إنّه هشّم جلده وترك قسمًا من وبره في جوانب الطّاقة الضّيّقة.

   وعندما صار أمام الباب، وقد تغلّب على الجوع، ولم يعد خائفًا من الرّهبان، أحسّ بعطش شديدٍ، وخُيِّل إليه أنّ جوفه يلتهب من جرّاء أكل دجاجتين مُسَمَّنتين.

   وكان أمام الباب بئرٌ فقفز حتّى وقف على حافّتها وأخذ يتلفّت إلى قاعها، فلم يجرؤ على النّزول لأنّه خاف على نفسه من الغرق أو من البقاء في قرارتها، ولكنّه لم ينصرف، إذ أبصر دَلْوَيْن في طرَفَي حبلٍ معلّق في بَكْرَةٍ موضوعةٍ فوق الخرزة، أحدهما يطلع والآخر ينزل إلى الماء.

   تمدّد الثّعلب على الحافّة وأجال بصره في قاع البئر فنظر نفسه، فخُيّل إليه أنّ ثعالة زوجته المحبوبة فيه، فتعجّب من منظرها ومجيئها إلى ذلك المكان فسألها قائلًا:

   ما تصنعين في قعر هذه البئر؟

   فرَجّعَت البئر صوته واعتقد أنّ ثُعالة أجابته ولكنّه لم يُدرك معنى جوابها، ولم يَعْتَدْ أن يسمع منها مثل ذلك الصّوت الغامض والجَهوريّ؛ فكرّر نداءَه، غير أنّه لم ينل جوابًا أوضح من الأوّل، فتعجّب من ذلك واستولت عليه الحيرة. عندئذٍ انحنى قليلًا ليتثبَّت ممّا رأى في أسفل البئر، ووضع يديه في الدّلو الأعلى فجرّ ثقل جسمه الدّلو وسقط إلى القاع كما يسقط الحجر، وعلا الدّلو الثاني حتّى حاذى فم البئر، وغطس الحيوان في الماء حتى بطنه ونادى ثُعاله وبحث عنها فلم يجدها، وصاح صياح الوجع لأنّ أعضاءه كادت أن تتكسّر وتجرّحت من عِظَمِ السّقوط، وسبح قليلًا وجلس على صخرةٍ، قريبًا من الحائط، ووبره مبلّلٌ يقطر منه الماء واستولى عليه البرد وزال عطشه حتّى إنّه لم يعد يخطر بباله أن يتناول نقطة ماءٍ، وتأكّد أنّ الموت المحتّم ينتظره في ذلك المكان المُظلم الملعون الّذي ساقه إليه الشّيطان الرّجيم، والّذي يرجو منه مخرجًا. واشتدّ غيظه وخجل شديدًا من نفسه وحماقته الّتي أوقعته في جوف البئر المميت، وتمنَّى لو أنّه ظلّ في داخل الدّير وقتله فيه الدّيرِيُّون.

   ومن حُسن حظّ هذا الثُّعلبان المسكين اتّفق أن جاع الذّئب أبو جعدة، فخرج من الأدغال يُفتّش عن فريسة يأكلها، وساقه القدر أمام باب الدّير. وبما أنّه لم يكن نحيفًا كالثّعلبان، لم يقدر على الدّخول من الطّاقة، فتجوّل حول هُرْي الرّهبان البِيض، دون فائدةٍ، فاقترب من حافّة البئر حزينًا جائعًا، وأقعى على ذنبه وأمال رأسه قليلًا فرأى في القعر صورته، وأجال بصره فشاهد الثُّعلبان أيضًا.

   كان الوقت ليلًا والنّجوم تتلألأ في قبّة السّماء، فترسل أنوارها البرّاقة في مياه البئر فتنعكس وتُضيء جوانبها، فلمّا أبصره الثّعلب الخبيث قال له:

   أنظر يا أبا جَعدَة هذه الشّموع العجيبة المُضاءة حولي، فهي تدلّ على أن يسوع المسيح سيرحمك ويعفو عنك ويغفر لك جميع خطاياك، فبادرْ بالنّزول إلى هذه البئر المقدّسة، وهذا الدّلو الّذي أمامك هو دلو التّوبة الّذي يُزيل جميع الذّنوب، فضع نفسك فيه يوصلك إلى هنا سريعًا ويُبَلِّغْك مُناك. فسُرَّ أبو جعدة وجمع قوائمه وقفز إلى الدّلو، ولمّا رأى الدّلو يهبط ببطءٍ ازداد سروره؛ وعندما بلغ وسط البئر التقى بأبي الحصين يصعد في دَلْوٍ آخر فاضطرب وانشغل باله وسأله قائلًا:

- إلى أين تذهب يا ابن أخي؟

فجاوبه الثّعلب:

- إنّ العادة، يا عمّاه، أن يحدث تبادل بين النّازلين والطّالعين، فلمّا ينزل واحدٌ يخرج من البئر واحدٌ آخر. أمّا أنا الآن فإنّي صاعدٌ إلى الجنّة، فوق، وأنت نازلٌ إلى الجحيم، تحت إلى قاع البئر حيث ستستقرّ إلى الأبد، فوداعًا!

   بعد برهةٍ وجيزة وثب الثّعلب إلى حافّة البئر واطمأنّ على حياته وانصرف وهو متأكّد من أنّ عمّه الذّئب سيبقى في القاع المظلم حيث يموت بردًا وجوعًا وغيظًا وحسدًا.

   وفي أثناء هذه المأساة اللّيليّة، كان الرّهبان نائمين والدّير ساكنًا.

   وعندما انبلج وجه الصّبح استيقظ طاهي الدّير وفتح الباب استعدادًا للذّهاب إلى البئر والورود من مائه ففكّ حماره وساقه أمامه، يتبعه ثلاثة قسسٍ لمساعدته. ولمّا وصلوا ربطوا الحمار إلى البَكرة واستحثّوه على الشّدّ لإخراج الدّلو مملوءًا ماءً. فاندفع الحمار باذلًا كلّ جهده وقوّته، ولكنّه لم يستطع أن يخرج الدّلو لأنّ الذّئب القاعد فيه كان ثقيلًا جدًّا. فتعجّب الطّاهي ورفاقه الثّلاثة من عجز الحمار، خلافًا لعادته، واعتقدوا أنّ في الأمر سرًّا يجب معرفته، فاقترب من خرزة البئر راهبٌ وتطلّع إلى قاعها، وما أن وقع بصره على الحيوان الوحشيّ حتّى صرخ قائلًا:

- ذئبٌ، في الدّلو ذئبٌ!

   فهرب الجميع من ساعتهم متوهّمين أنّ الذّئب ذلك لم يكن سوى الشّيطان... تاركين أبا جعدة البائس في القاع المظلم والحمار يشدّ الحبل محاولًا إخراج الدّلو وأذناه منخفضتان وعيناه مغمضتان.

                                 مقتبسة عن الفرنسيّة

                                          بقلم

                                 يوسف س. نويهض